الــدرامــا

لأن الدراما هي محاكاة لفعل الانسان بحسب التعريف الأرسطي، فإنها تستقي مواضيعها مما يحدث في مجتمعاتها، ويتسنى لها أن تعكس صورة كاشفة لما يحدث في السطح الظاهر، وفي الأعماق المظلمة، وأن تربط بينهما، كما تربط بين الأفكار والدوافع والسلوك، لتقدم عبرتها أو خلاصة مقولتها في النهاية، كما في كل حكاية عبر الزمان.

وفي مجتمعاتنا ومنها سوريا حيث المسكوت عنه أكثر من المسموح، بفعل القمع السياسي والثقافي فإن الدراما بقيت سجينة أنماطها المتاحة والمكررة، بدل أن تمتع المشاهد وتحمل مضامين راقية وتسلط الضوء على الإشكاليات الراهنة.

وفي هذا المناخ تم إحباط المحاولات الجادة في تقديم دراما جيدة ومعبرة بآن معا، وعززت العلاقة بين رأس المال المنتج ووسائل العرض سيطرة السلطة على هذا الفن، وجيّرته لصالحها، ليتحول بشكل ما إلى أحد أدواتها الاعلامية الذي يكرس فيها فكرها، ويردد مقولاتها.

وفي ظل هذا الخواء جنحت الدراما السورية الى ألعاب بصرية وتنوعات شكلانية، دراما بيئية، وغيرها، وخاطبت الغرائز المكبوتة، ولم يشفع لها في بعض أعمالها، أنها خاتلت أحياناً و مررت رسائل برمزية ما، لكن تلك الرسائل بقيت بسقوف منخفضة سمحت بها السلطة أحياناً بوعي منها، ولم تر فيها ضرراً عليها، وربما شجعتها في أحيان أخرى، كتنفيس الاحتقان، أو ربما، لادعاء وجود الحرية.

في هذا الإطار كان النجاح بالنسبة لي في التلفزيون هو الخروج بأقل قدر من الخسائر المعنوية.

الكــومــيديـــا

فن الكوميديا من أصعب أنواع الدراما فليس سهلاً أن تضحك الآخرين بدون إسفاف، وتترك أثراً عميقاً في وجدانهم، ذلك الأثر الذي يعتبر واحداً من أهم وظائف وغايات الفنون والثقافة بشكل عام.

والضحك يقوم على المفارقات سواء في الفهم أو السلوك أو الموقف، ولهذا يحتاج النص الكوميدي إلى متنفس واسع من الحرية الاجتماعية، ويزدهر في مناخ الديمقراطية الحقيقية، والرقابة الذكية غير المؤطرة او المسيسة، وفي انعدام هذه الظروف فإن الكوميديا تصبح منحطة ومليئة بمبالغات فنية مكررة تفشل في استدراج الضحك الحقيقي.

والكوميديا كفن خلاق، شديد الحساسية للمتغيرات السريعة على الصعد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وعلى الفنان التقاط تلك الحركة المتغيّرة وتوظيفها، كما يتوجب عليه إدراك التبدلات في المزاج الفني العام للمشاهد نتيجة تغير الظروف.

ولهذا في سوريا كما في حالتنا، أو في محيطنا العربي عامة فإن تأطير الممثل لنفسه، مهما كان مبدعاً، ضمن الإطار الكوميدي، هو إعلان مبكر لسقوطه الحتمي، أو فشله الذريع، لعدم توفر ظروف نجاح الكوميديا، وعدم وجود مناخاتها المواتية.

فنجاح الممثل الكوميدي يحتاج الى مؤسسات داعمة، وهذا الكلام أدركته المجتمعات الفنية المتقدمة، فكان الممثل الكوميدي يختط شخصية واحدة طوال عمره مثل شارلي شابلن ونورمان ويسدوم ولويس دوفينيس ومستر بن وغيرهم.

هذا يدل على أن تقديم الكوميديا بحاجة لمؤسسة أكبر بكثير من طاقة الممثل الفرد، مؤسسة تقدم الرعاية والمتابعة والأمن بالمعنى الحقيقي للكلمة للممثل الكوميدي. ومن هذا المنطلق فإن مستقبل الكوميديا في منطقتنا مرهون بالمستقبل الديموقراطي.

الــرقــابــة

الرقابة هي أكبر عدو للفنون والثقافة، وهي السيف المسلط عليه، ودائما ما تزدهر الثقافة والفنون مع انخفاض منسوب الرقابة، والعكس صحيح، وكلما اشتدت الرقابة وازدادت هيمنتها ضاع التميز الذاتي بين الأعمال وجنحت الى التشابه، وتحولت الى نسخ متكررة.

في فضاء الاستبداد العربي القديم المستمر، تم إقصاء الثقافة كشرط رئيس لإقصاء المجتمع من دائرة الفعل، فكان لا بد من جدار المنع السميك، الذي يضمن تقوقع المجتمع وعدم تعرّضه لمحتوى معين إلا بعد تدقيق هذا المحتوى، خوفاً من أن يلفت نظر المواطن إلى ضرورة تغيير أي شيء.

والرقابة ليست مجرد قوانين محددة من قبل منظومة سياسية سلطوية، إنما هي أعمق من ذلك بكثير، فشروط الرقابة الرسمية وخاصة السياسية منها يمكن التعامل معها أحياناً بشكل أو بآخر، ولكن الرقابة الشعبية هي رقابة تحرص على تكريس أعراف المجتمع وتدافع عنها ولا تتوانى أن تستخدم الدين حجة وذريعة لتحريم أي وجهة نظر جديدة ومعاقبة صاحبها.

إنها الرقابة الشعبية التي ترفض كل المواضيع التي تكشف عيوب مجتمعها وتخلفه ومذهبيته ونرجسيته. إنها رقابة الناس الذين يرفضون التطور والاندماج مع ما هو معاصر، فهم لم يحتكّوا بغيرهم ولم يواجهوا واقعهم وهم شريحة كبيرة جداً.

الجدير بالذكر هنا أن الرقابة الرسمية هي التي تتقدم وتدافع عن الرقابة الاجتماعية هي المتحكمة والآمرة الناهية بشأنها، هي التي ترفع وتخفض سقف الأفكار بحسب لزومها.  

حقول المسرح والسينما والرواية والشعر في ثقافتنا العربية بحاجة ماسة إلى التجديد والابتكار الفكري، ولكن هذه الحقول عاجزة عن الفعل في ظل الضوابط الرسمية والاجتماعية الملتبسة.

الـفـنـان

الفنان هو مثقف شديد الحساسية، ومالك لأدوات فنه، وتكمن  مهمته الحقيقية في البحث بين الركام عن الجمال المعبّر وتقديمه للناس، وحين يفلح الفنان في ذلك يشعر بالسعادة والنشوة، ويحاول الارتقاء بأدواته ومضامينه في بحثه عن المزيد من العطاء والفعل الجمالي، ويبلغ الفنان ذروته حين تتقاطع دوافعه الذاتية مع الهاجس العام.

لكن الفنان هو إنسان ومواطن أولاً، وفي غياب فاعلية المواطن ومحدودية الفعل لديه يصبح الفنان بشكل تلقائي عاجزاً عن أداء مهامه ووظائفه الفنية، وفي أحسن الاحوال إن أسعفته الظروف والحظ يتحول الى مؤد محترف لأدوار لا تسمح لطاقاته الداخلية بالظهور، ولا تعبر عما يدور في داخله، فالفنان محكوم بالمعطيات العامة كغيره، أيضاً.

وذروة النفاق في وضعنا العربي المتردي هي دفع الفنانين الى الواجهة الإعلامية ليتحدثوا عن الشعوب وآلامها في فترات الأزمات السياسية العاصفة، وإن كان ذلك من حقهم إلا أن الأمر ليس من وظائفهم الأساسية وإنما هو من وظيفة الطبقة السياسية المختبئة في جحورها، فالفنان في الشأن السياسي ليس أكثر من مواطن عادي له رأيه، ويكمن دوره الحقيقي والفاعل في تقديم الجمال والمعرفة، ومن غيبه عن هذا الدور هو من يحاول زجه في الواجهة ليخفف من نقمة الناس عليه ويحرف الحقائق ويستمر في الاستبداد والتحكم بالمصائر العامة.

الــنــجـــم

هو فنان محبوب حقق معادلة الانتشار والحب الجماهيري، والتمييز بين الفنان، وبين الفنان النجم ليس عملا ميكانيكاً أو بسيطاً، فكثيراً ما يخضع الأمر لألعاب التسويق، ما يجعل المفاضلة بين قيمتي الفنان والفنان النجم عملاً نقدياً شائكاً له خصوصيته، وإشكالاته.

وهناك أمر يجب التنبه له فمن يطلق عليه الناس لقب نجم فهو يستحقه بالتأكيد لأنها تحبه، ولا تبغي من وراء هذا الوصف منفعة مادية، على خلاف شركات الإنتاج التي تسعى إلى صناعة النجوم وترويجها بغية تحقيق مردود مالي.

والنجومية برأيي لا تصح كثيرا على فناني (نجوم) الدراما التلفزيونية كون عملهم أو ظهورهم المستمر مرتبط برضى السلطة السياسية عليهم، عدا أنهم مفروضين علينا في منازلنا، ويدخلون بيوتنا عنوة، وهم عادة يدارون على الأغلب من صناع القرار السياسي الذين يهتمون بالتقاط كل موهبة جديدة لفتت نظر الجمهور.. 

النجم الذي تمنحه الجماهير هذا اللقب أمر يقلق السلطة السياسية المستبدة، فتأثيره على الجماهير يكون عارماً وعلى الاغلب يكون رأيه مستقلاً..

لذلك نلحظ إهمال السلطات في إنتاج وتطوير المسرح والسينما حيث الفضاء الذي يختار الجمهور نجمه بنفسه لا كما يجري الأمر في التلفزيون حيث تدفع السلطة من خلال التلفزيون نجومها ليدخلون عنوة علينا فنختار أحدهم ظانين أننا نحن من سميناه نجماً.

الــدرامــا الــتــاريــخــيــة

لم تقدم لنا الدراما التاريخية الكثير، على العكس، ساهمت في تشويه التاريخ، فبدل أن تغوص في الإشكالي، أو المطموس ذهبت الى المتفق عليه، وبالغت في التمجيد والقداسة، وقدمت حقبا تاريخية بوصفها نورانية، وحكاما أنصاف آلهة لا تشوبهم شائبة.

ما قدمته الدراما التاريخية لدينا حتى الآن، لا يعدو كونه تأريخاً مدرسياً في مستواه الرسمي، تاريخاً كتبه المنتصر عن ذاته، أو كُتب لاحقاً وفق أهواء قومية، أو مذهبية، أو غيرها من العصبيات.

فالدراما التاريخية هي التي تستدعي الكشف، وهي التي تطلق الأسئلة الحقيقية، وهي التي تربط جسراً حقيقياً بين الماضي والحاضر بمآلاته المؤلمة، وهي التي تضيء لنا يومنا وغدنا، وتحفز فينا النهوض، بدل أن تستدعي فينا الحنين المرضي إلى الحياة في الماضي.

الســـيـنـمـا

تتسم السينما” الفن السابع” بوصفها فنا محمولاً على الصناعة والتكنولوجيا، وبمقدار ما يحتاج الجانب الفني فيها إلى حرية وخيال، يحتاج الجانب التقني فيها إلى تقدم تكنولوجي، ومال وفير، والعوامل الأربعة الآنفة الذكر شبه معدومة في بلادنا، أو مغيبة على الأقل.

السينما بشكل عام مرتبطة بالوضع الاقتصادي لعموم المواطنين، لأنها قائمة على الإنفاق الخاص، ومحدودية المداخيل في بلداننا، وهزالة العروض جعلت من السينما قطاعاً لا يتجاوز وجوده الطابع الفولكلوري، يكفي أن نقول بلادنا تنتج أفلاماً لا تعرض، أو حتى لا تسمح بعرضها أحياناً، وإن عرضت، فلا إقبال عليها، ولا من يحزنون.

السينما الحقيقية شيئ آخر، عالم غني بلا حدود، لا يتوقف عن العطاء والادهاش، تكتمل فيه العناصر الفنية، ومن بينها طاقات الفنان، مع العوالم الفكرية والصناعية للفيلم، لتشكل منظومة كاملة اسمها الفيلم، يستحق بكل جدارة أن يشاهد.

السينما الحقيقية شيء مغاير للدراما التلفزيونية، انها كالفرق بين المادة الصحفية اليومية، وبين الكتاب، بالطبع في حالة جودة كل منهما، وليس في حالة رداءة أحدهما، أو كليهما، فهما يتساويان عندها.

الســلــطــة

في مجتمعاتنا العربية السلطة هي الكابح الأول لكل فعل، هي مصدر الخوف والهلع في قلوب الناس، وهي القوة التي تعاقب من يفكرون بالتغيير، بأي تغيير كان، وليس فقط التغيير السياسي أو الديمقراطي، أو الحريات، هي سلطة تتوخى الاستقرار القائم على الثبات والسكون، وهي بذلك تلغي أي حركة فاعلة.

لهذا تسعى السلطة لتحويل اهتمامات الجموع، من الهموم العامة والحريات والثقافة، إلى الهموم الخاصة بتحصيل لقمة العيش، والبحث عن أمنهم الاجتماعي والاقتصادي المفقود، إنها باختصار تحول حركة الناس الى حركة صفرية المردود.

وفي سوريا تمثل السلطة أكبر مجرم بحق العمل الثقافي والفني، وما تدعيه من اهتمام ورعاية ودعم مالي للجانب الفني،  ليس أكثر من شبكة تهدف الى الإمساك بالجانب الفني و السيطرة عليه، واللعب بمكوناته، وإخضاعه لصوت واحد هو صوت القائد.

الــجـــوائـــز

فيما تذهب الجائزة لتقدير الفنان، والعمل الفني، وتعبر تميزه الخاص، فإنها تهدف أيضا الى ترويج أعمالها وبيعها، هذا يحدث في الغرب عموما،  وهذه هي وظيفة المهرجانات ، ولكن في بلداننا تبدو الصورة مقلوبة، فالأعمال التي تنتج في بلادنا وترشَّح للمهرجانات تكون بالأساس قد حصلت على الترويج وبيعت بشكل جيد مسبقاً، ومن الممكن أن تكون رابحة أيضاً، لذلك فالجوائز غير ذات معنى هنا.

منح الجوائز للأعمال الدرامية التلفزيونية كالأعمال السورية مثلاً غير مناسب، لان العمل دون مستوى فكرة الجائزة ونبلها، لسببين الأول أن الدراما غير حرة لا على المستوى الاجتماعي ولا على المستوى الرسمي، والسبب الثاني ضعف تقنياتها الشديد، والجائزة هنا تأتي لتكرس ما سبق، وتخدع الجيل القادم الذي سيسخر منا على توصيفنا وتقييمنا لهذه الأعمال التلفزيونية المفبركة.

من الممكن أن نجد عملين أو ثلاثة يستحقون المنافسة على الجوائز لكن هذا العدد القليل غير كافي لإقامة مهرجان وتوزيع جوائز وبالتالي لا وجود للمنافسة من الأصل، وصناع الدراما لا يسعون للجوائز و لا تهمهم بقدر ما يهمهم بيع العمل.

أما التكريم فهو وفق ما يتبدّى في مجتمعاتنا، حالة مشابهة بحالة التفقد في المدارس أو قطعات الجيش، هو بلا قيمة حقيقة، بلا انتقاء رزين، بلا تقييم نقدي، بلا حالة احتفالية يمكن أن تترك ذكرى أو أثراً

المســـرح

يصح القول أن المسرح “ابو الفنون” جميعها، عنده تلتقي، ومنه تفرع معظمها، وهو عشق معلن او دفين لكل الفنانين، فيه يجدون أنفسهم، وفيه يختبرونها أيضا، لم تسرق رهبته التكنولوجيا، ولا قللت من عظمته الصورة البصرية البراقة للتلفزيون او السينما.

الفضاء الأخّاذ لخشبته، والرهبة الغامرة المحمولة على مواجهة مباشرة بين الفنان والجمهور، وايقاع الصوت الحي والجسد المباشر، كل ذلك يشكل التواصل الفريد بين الفنان وجمهوره، لا أقنعة ولا حواجز في المسرح، كل شيئ متحفز وتفاعلي في برهته الآنية، وفي امتداد تأثيره النفسي.

المسرح بشحنته النفسية وتأثيراته العاطفية مخيف لسلطات الاستبداد، لهذا جوف النظام السوري المسرح وأهمله عمدا، وبات حلما لكل فنان يحلم أن يجسد خياله فيه، حيث يتجاوز خيال المسرح خيال التلفزيون وربما السينما رغم أدواته المساعدة، وهنا تكمن قوة الخيال في المسرح، انها مرهونة بطاقة الممثل وابداعه في المقام الأول.

وما زاد من بؤس المسرح في سوريا، دخول العقلية التلفزيونية إليه،  ففقد روحه وتحول الى مجرد تمثيليات تعرض بشكل مباشر.